جاء في الأخبار أن الدكتور عادل عبد الغني المحامي ذكر في برنامج (حديث الناس) على قناة النيل الأزرق: (وجود أكثر من (3.500) حكم إعدام نهائي جاهز للتنفيذ معطل حالياً بسبب عدم وجود محكمة دستورية، واذا قامت محكمة دستورية اليوم وتم تنفيذ حكمين بالاعدام كل يوم فاننا نحتاج إلى ما يقارب (3) سنوات بدون إجازات لتنفيذ كل أحكام الإعدام المعطلة حالياً)، وهذا الحديث هو الواقع المعاش، بل أن بعض المحكوم عليهم بالاعدام توفاهم الله في السجون بانتظار تشكيل المحكمة الدستورية، وحتى كتابة هذه السطور لا يعلم أحد عدد الدعاوى الدستورية التي قيدت بالمحكمة ولم يتم النظر فيها بسبب غياب المحكمة، لكن توقعاتنا بأنها تتجاوز عدد المحكوم عليهم بالإعدام أضعافاً مضاعفة. خاصةً هنالك دعاوى دستورية تتعلق بحماية الحقوق والحريات العامة خلال الفترة الانتقالية، ودعاوى تتعلق بعدم دستورية قوانين ونصوص قانونية تم تعديلها أو اصدارها خلال الفترة الانتقالية، ودعاوى دستورية قيدت لدى المحكمة الدستورية تتعلق بعدم شرعية الإجراءات التي اتخذها رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة في 25 اكتوبر وغيرها الكثير.
سبق لي كتابة عدة مقالات منشورة في الصحف عن غياب المحكمة الدستورية، وتأثير غياب المحكمة الدستورية على العدالة الجنائية، وعن عدم إصدار قانون مجلس القضاء العالي الذي بموجبه يتم تشكيل مجلس القضاء الأعلى الذي يرشح تعيين رئيس القضاء وقضاة المحكمة العليا ورئيس واعضاء المحكمة الدستورية، وعدم اصدار قانون المجلس الأعلى للنيابة الذي بموجبه يتم تشكيل المجلس الأعلى للنيابة الذي يرشح تعيين النائب العام، وعن غياب المحكمة الدستورية وأثره على تفسير النصوص القانونية والدستورية. هذه المقالات لم تكن ترفاً قانونياً أو كتابة من أجل الكتابة. فطالما هنالك وثيقة دستورية سارية المفعول وتعتبر هي القانون الأعلى في البلاد، فإن مبدأ تدرج القواعد القانونية يستوجب إحترام النصوص الدستورية كمرجعية لكل القوانين السارية. الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019م نصت على انشاء المحكمة الدستورية، ووفقاً لقانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م فان المحكمة الدستورية هي الجهة المختصة بالنظر في دستورية وعدم دستورية القوانين والنصوص وتفسير النصوص القانونية وحماية الحقوق والحريات العامة.
يسأل البعض عن علاقة المحكمة الدستورية بتنفيذ أحكام الأعدام النهائية بعد تأييد احكام الاعدام من المحكمة العليا، وهذا السؤال يتردد كثيراً خاصة وأن المحكمة الدستورية ليست درجة من درجات التقاضي ولا تتبع للسلطة القضائية لا هرمياً أو إدارياً، بل هي محكمة مستقلة أعطاها الدستور سلطة النظر في أمور محدد وفقاً للقانون والدستور، من بين اختصاصاتها: (حماية الحقوق). والمقصود بالحقوق المراد حمايتها حقوق الإنسان المنصوص عليها بالوثيقة الدستورية لسنة 2019م في الفصل (الرابع عشر)بعنوان: (وثيقة الحقوق والحريات)، ومن هذه الحقوق على سبيل المثال لا الحصر: (الحق في الحياة والكرامة الانسانية) المادة (44): (لكل انسان حق اصيل في الحياة والكرامة والسلامة الشخصية ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان اي انسان من الحياة تعسفاً)، و(الحرمة من التعذيب) المادة (51): (لا يجوز اخضاع احد للتعذيب او المعاملة او العقوبة القاسية او اللا انسانية او المهينة او الحاطة بالكرامة الانسانية)، و(الحق في المحاكمة العادلة) المادة (52) وتتمثل في مبدأ البراءة والحق في الاخطار عند القبض بالتهمة والحق في سماع القضية بشكل عادل وعلني أمام محكمة مختصة ومشكلة تشكيلاً صحيحاً وعدم توجيه الاتهام لشخص عن فعل لا يشكل جريمة عند وقوعه والحق في الدفاع عن النفس بواسطة محام والحق في توفير محام على نفقة الدولة في الجرائم بالعة الخطورة.
الحقوق المذكورة وغيرها من الحقوق المنصوص عليها في وثيقة الحقوق والحريات تسمى (حقوقاً دستورية) أي انها حقوق محمية بالدستور والقانون. بعد تأييد المحكمة العليا لأحكام الاعدام يلجأ المحكوم عليهم بواسطة دفاعهم من المحامين لتقييد (دعاوى دستورية) على سند من القول بأن هناك انتهاك لحق دستوري منصوص عليه بالوثيقة الدستورية مثل الحق في الحياة أو الحق في المحاكمة العادلة أو الحرمة من التعذيب وغيرها، وبعد قيد الدعوى الدستورية يُخشى أن تحكم المحكمة الدستورية لصالح الشخص المدان، وأن تحكم بأن المدان لم ينال محاكمة عادلة أو انتهك حق من حقوقه الدستورية الواردة في الوثيقة، لذلك يتم ايقاف تنفيذ حكم الاعدام الى حين الفصل في الدعوى الدستورية، حتى لا ينفذ الحكم ويتضح لاحقاً بحكم من المحكمة الدستورية أن المدان لم يتمتع بحقوقه الدستورية كاملةً.
تقاعس الدولة ومؤسساتها وسلطاتها عن الوفاء بالالتزامات الدستورية، وعدم إصدار التشريعات المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية ذات الصلة بتشكيل المحكمة الدستورية (قانون مجلس القضاء العالي) الذي بموجبه يتم تشكيل مجلس القضاء العالي المختص باختيار رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية يعتبر انتهاك الحق في اللجوء للعدالة واهدار الحق في التقاضي وتقويض قيم العدالة ويعرض سيادة حكم القانون للخطر. وإذا ثبت بأن أي "موظف عام" ممن ينطبق عليه صفة (الموظف العام) وفق القانون إساء او استغل الوظيفة وامتنع عن أداء وظيفته لغرض الحصول على منفعة غير مستحقة له أو لغيره أو لكيان أو حزب مما يشكل انتهاك للقانون، هذا الفعل يعتبر ضرب من ضروب الفساد المجرم بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي صادق عليها السودان في العام 2014م.
لذلك يجب تشكيل المحكمة الدستورية لممارسة اختصاصاتها وفق القانون، أو الغاء المحكمة الدستورية من الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019م والغاء قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005م والرجوع الى ما كان عليه العمل سابقاً، وانشاء دوائر دستورية بالمحكمة العليا لممارسة الاختصاصات التي تمارسها المحكمة الدستورية. لان الوضع القانوني والدستوري السائد وضع مريب لا يوفر أدنى معايير حماية الحقوق والحريات المنصوص عليها في القانون والدستور والاتفاقيات والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الانسان.